القنقنة والوعي
الإنسان
ليس في غنى عن العقل ، والعقل ليس بقيمة مضافة أو عبثية ، بل هو ميزة وهبة ربانية تصنف
الإنسان ككائن عاقل ، وتعطيه سمة من سمات الكمال لخوض غمار الحياة ، هذا الكائن له
طباع جوهرية وقدرات تميزه عن مجموعة من الخلائق والأنماط الإحيائية ، ولو أن العلم
صار يضرب بالمثل قدرة الحيوانات على التواصل اللامحسوس بأماكن النشأة أو أماكن المياه
الجوفية ، إلا أن تواصلها فطري لقوله جل وعلى في سورة الأعراف الآية 179 (ولقد
ذرانا لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها
ولهم آذان لا يسمعون بها أولائك كالانعام بل هم أضل أولائك هم الغافلين) وصيغة
التشبيه ببعض مواصفات الانعام جلية في الآية الكريمة لوجود فوارق عدة بين عقل
الإنسان والحيوان ، والله تعالى ألهمها فقط بعض القدرات الفطرية لتتهتدي بها ويكون
نوع من الإدراك البدائي ، لاكن العقل البشري الجبار ذو السمات المبهمة والقدرات
التي تتخطى المألوف ليس بمطلق ، بل هو قابل للخطأ والسهو والهلاك ، فلو كان مطلقا لتأخذت
الحياة مسارا واحدا ، ولسلك الإنسان دربا وقطبا واحدا إما بالسلب أو بالايجاب ، ولبنيت
الدنيا على منهجية واحدة إما خير أو شر مصداقا لقوله تعالى في سورة هود الآية 118 (ولو شاء ربك لجعل الناس
أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ) صدق الله العظيم ، فالعقل بظاهره وباطنه وما وراء
ذالك ، غياهب من العوالم اللامتناهية ومستويات من الوعي الغير متساوي بين مختلف
أشكال البشر ، وكل امرئ منا يرى ما يراه مناسبا بنظراته الخاصة فقط حتى ولو كان
مخطئا ، لأن المنطق ليس هو الحقيقة بل هو طريقة إيصال الفكرة وتعزيزها ولو بأذلة
شاذة ، والعقل من سماته الخطأ حتى ولو بلغ المرئ أسمى مراتب الوعي ، ولكم أن
تسألوا عن سير الأنبياء والرسل والصحابة والصالحين ، لذا فإن معجزة العقل يعجز في فهمها
حتى ملاكها وعقلاء العالم المعاصر ، وصيغة الاعجاز لا تنطوي على القدرة بل على
خالق القدرة ، ولولا التجارب العلمية والبحوث الأكاديمية لظل الإنسان وأظل ، وطرحنا
الحالي يتناول موضوع من أهم عوالم العقل الخفي ، ألا وهو موضوع الوعي ، وكثيرا منكم
من ستبادره الشكوك والريبات في علاقة القنقنة بالوعي ، أو علاقة القنقنة بالعقل ،
فالوعي ليس بطفرة جينية أو بعنصر دخيل علينا بل هو منة من الله عز وجل ، ومنة على
اتصال وتواصل دائم بالإنسان ، فلا أحد منا يستطيع نزع ميزة العقل والعمل بدونه في
أي ظرف كان بغض النظر عن عالم الاستشعار ، والوعي عنصر مهم جدا في عملية البحث لأنه
يكون على تواصل مباشر بأداة القنقنة ، وعلى تواصل دائم بالعالم الداخلي والخارجي
للجسد ، كما يتيح للباحث دقة في التركيز والتواصل مع الأداة خصوصا في المراحل
المبكرة من التعلم ، لذى فما هو الوعي يا ترى ؟
طبعا الوعي كلمة لها توضيف ولها معاني
متدبدبة يغيب فيه الوصف القار والدقيق ، إذ توضف هذه الكلمة في مواضع ومواقف يختلف
فيها المعنى ، وتنتحل هذه الكلمة أبعادا آخرى ، حيث تكون الدلالة منها ترمي لمكانة
اجتماعية معينة أو لوضع مفارقات بين هذا وذاك أو حتى لتقييد شخص بصفة ، حتى صارت
الكلمة بمعناها تسلك دربا من دروب السفسطة ، بحيث لا يخرج المصطلح الكلاسيكي عن
سمة الوصف والنعت أبدا ، وهذا هو الجانب الظاهر أو الفهم الخاطئ لكلمة الوعي ،
لاكن الجانب الماورائي الذي نسعى ورائه يتخطى حدود الفلسفة والعلم ، إذ تغيب فيه
الأدلة المادية لكينونة الوعي وعلاقته بالمادة ، وغالبا ما نجد له تعاريف متضاربة
وبعبارات فلسفية يشوبها الغموض والريبة , لأن التعاريف المتاحة ولغاية اليوم كلها
تعتمد على تجارب الناس الواعية من خلال فهمهم لذواتهم وليس لذوات الناس بالإجماع ،
لأن الوعي شيء ذاتي وليس موضوعي .
وكلمة وعي في الإصطلاح الكلاسيكي غالبا ما
نلقي بها في غير محلها ، وغالبا ما نعطيها أبعاد أخرى لا تتخطى حدود الوصف ، فقد
نقول أحيانا كن واعيا ، لاكن المقصد ليس الوعي بمفهومه الحسي أو الإدراكي ، وإنما
الوعي بمفهومه الثقافي أو الرصيد المعرفي ، أو قد نقول أحيانا أن فلانا رجل أمي
لاكنه واعي ، بحيث لا يجسد الوعي الرصيد المعرفي أو الثقافي ، وإنما يجسد الفهم والمسايرة
للأوضاع ، سواء السياسية منها أو الإجتماعية أو غيرها ، وقد نقول أحيانا أن فلانا ثمل
لاكنه واعي ، إذ ينطوي الوصف هنا على القدرة الإدراكية الرهيبة للرجل الثمل
وتصرفاته الطبيعية ، وهذا النوع من الأمثلة يعطي وصف شبه منطقي لمعنى كلمة وعي ،
ولو أنه لا يغذي كافة الإحتمالات التي تقرب المعنى الحقيقي ، إلا أنه يجسد الصفة
الواعية للإنسان الطبيعي في حالة وعي كامل ، ولقرون طويلة شمل مصطلح الوعي عدة تعاريف
تقريبية لا تغذي جل الإحتمالات ، ولا تصوغ الحقيقة المطلقة ، وذالك نظرا لعجز
العلم الحديث عن المزج بين الظواهر العصبية والنفسية ومدى علاقتها بالعقل ، لاكن وعموما
سنذكر من بين هذه التعريفات بعضا مما ورد في المراجع .
_
يقول كارل ماركس بأن
وعي الناس ليس المسؤول عن وجودهم ، وانما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ، وهذا
التعريف يعزى به نظرة عن كثب ، أو نظرة الإنسان الواعي بمفهوم ظاهري ليس بذالك
الوصف الشعوري أو الحسي ، وهذا التعريف كما أوردنا سالفا تعريف كلاسيكي يدخل ضمن
إطار الوضع الاجتماعي والإنتاج البشري ، الذي من خلاله نحدد درجات معينة من الوعي ،
وهذا ما فند نظرة الماركسيين حول مفهوم الوعي .
_
ويقول الفيلسوف
نيتشيه أن الإنسان في غنى عن الوعي ، والوعي ما هو إلا تعبير لغوي لا يعبر عن
الحقيقة أبدا ، فلولا الصراعات من أجل البقاء ما لجأ الإنسان إلى التعبير والتنديد
بالحرية ، لذا فإن الوعي واللغة متلازمين مع بعضهما ، وهنا نستطيع الاستشهاد
بالتعريف الكلاسيكي الذي أوردناه قائلين بأن الوعي هو مسايرة للأوضاع سواء
السياسية منها أو الاجتماعية أو غيرها .
_ويقول سيغموند فرويد بأن الوعي لا يعبر عن كل
سلوكياتنا ، ما دامت سلوكياتنا غير متماسكة وغير قابلة للفهم ، لأن الوعي فيه
الظاهر والباطن ، لكون الوعي نفسه يدخل في سلوكيات لا شعورية ، وبذالك نبدي ردود
فعل غير مباشرة وغير محسوسة لاكن تكون نتاج وعي ونتاج إدراك نسبي ، والإنسان ككائن
مركب يعيش حياة مزدوجة به الظاهر وبه الباطن ، إذ شبهه فرويد بجبل من الجليد ظاهره
لا يمثل إلا جزءا بسيطا من باطنه .
كما ينعته آخرون بمجمل حياة الإنسان الواعية
بما فيها الأفكار والمشاعر والأحاسيس الإدراكية وكل ما يعالجه العقل والجوهر طيلة الوقت
، والبعض الآخر يقول بأن الوعي هو النشاط الإدراكي الواعي اللحظي المتسم بالإحساس الشعوري أو العاطفة أو التفكير بصفة
عامة ، وهذا التعريف يقرب الصيغة نسبيا لفهم الفيلسوف ريني ديكارت في القرن السابع
عشر حول موضوع الوعي ، لاكن بمنظور شمولي وإجمالي فهذا وصف خاطئ ، لأن الوعي لا
يساير الوقت لكونه مادة خام يصب بحسب الحاجة وبحسب الإرادة ، ويجوز استحضاره في أي
وقت كان وأي مكان وزمان ، والسفر به في صفحات الماضي والمستقبل ، وفي هذا الباب
نستطيع استحظار دور الذاكرة اللحظية لاستعادة
بيانات الماضي ، أو حتى السفر بالوعي لوضع رهانات وتوقعات مستقبلية قد تتحقق وقد
لا تتحقق ، بحيث تكون جل هذه التجارب مجارية للحاضر وللوقت الراهن .
ومن وجهة نظر البعض الآخر فإن الوعي دراية وإدراك حسي لحقيقة نفسية
غير ملموسة أو باطنية وروحية ، أو بصيغة أقرب للفهم يمكن اعتباره بحسب هذه النظرية
غور في أبعاد الكيان الجوهري للإنسان ، وإدراك مطلق لجل المشاعر والأحاسيس الغير
ملموسة ، وهذا الوصف يقرب لنا معنى الإنسان الحقيقي بظاهره وباطنه .
ويقول آخرون بأن الوعي هو الحياة الملموسة التي نعايشها في حالة
اليقظة ، والتي يكون فيها العقل في حالة نشاط كامل وكل القوى الإدراكية متاحة ، وبصريح
العبارة فجل هذه التعاريف وما أوردنا من أوصاف كلها تكمل بعضها البعض بغض النظر عن
السفسطة .
والوعي كما أسلفنا عبارة عن مادة خام تولد مع
الإنسان وتتطور بحسب فهمه للحياة وقدرته على استيعاب الأمور وتحليلها ، بالإضافة
إلى نمط البيئة التي نشأ فيها والتي تبني منظوره الخاص وشخصيته وتصرفاته الواعية ،
لأن الناس معادن وكل معدن يصف الحياة بحسب منظوره الخاص وبحسب فهمه للأمور ، ما يجعل
المادة الخام تنشأ وتتطور لتأخذ شكلا نسبيا في النهاية ، وشكلا قابلا لإعادة المزج
والتبلور مرة أخرى ، وكون أن الوعي قابل للتطور والمزج فهو قابل لأن يعاد بناء
هيكله الجديد مرة أخرى ، ومنه فإن كافة المشاعر الإدراكية والأفكار والفهم
الظهراتي قد يتغير من حالة إلى أخرى ومن مزاج إلى مزاج آخر ، وقد يتحكم حتى في الشخصية
والانطباعات والسلوك .
والوعي نشاط حي لا يحتويه
زمان ولا مكان ، وليس له وقت ثابت وقار ، بحيث نستطيع استحظاره في أي ظرف كان وأي
مكان كان ، والسفر به لمسافات بعيدة ونحن جالسون في مقهى ، سواء أكان السفر قرين
الماضي أو الحاظر أو المستقبل ، وهذا ما أسفرت عنه نتائج تجربة إنغوسوان في معهد
ستانفورد للأبحاث بالتعاون مع وكالة الاستخبارات الأمريكية سنة 1973 ، وواكب بعضا
مما جاء على لسان العرافة بابا فانغا وتنبؤاتها ، أي أمور لها علاقة قريبة بعالم الاستبصار ، وهذا
جزى لا يتجزأ من قدرات العقل الخارقة ، فليس بالظروري أن يتحكم اللاوعي في القيادة
التلقائية ونشوئ الربط الايثيري بين العقل
والعقل أو بين العقل والمادة ، فكون أن العقل لا يستطيع كشف ما تحت الثرى ، لاكن
يستطيع إبداء خلق وبلورة احتمالات واعية مصدرها الوعي ، ومثل هذه الظواهر البشرية
كما أسلفنا كثيرة ومتعددة استطاعوا خلق طفرات غير مسبوقة في عالم الكشف ، وبحسب ما
أسلفنا فالوعي لا يحتويه زمان ولا مكان ، لاكن نستطيع القول أن للوعي بداية بدون نهاية
، فقط كتعبير لمصطلع الوجود البشري ، وكاشارة لذالك فهناك قصص تروى بالجملة من تجارب
أناس وافتهم المنية إكلنيكيا ، ثم عادوا مرة أخرى للحياة ، تاركين ورائهم رسائل
تثبت حقيقة وجود الوعي في البعد الاخر ، وان الإنسان يضل محافظا على وعيه بشكل
كامل وكأنه لا يزال حيا ، ولو أن هناك بعض الفوارق في الروايات إلا أن الوجود
الواعي يضل موجودا ومحافظات على كافة التجارب الحياتية ، وهذا فقط كإثبات على أن
للوعي بداية بدون نهاية ، وأنه ظهر بولادة الإنسان وسيساير مجرى الحياة الأبدية
إلى ما لا نهاية ، ومنه فإننا نخرج باستنتاج ثاني ألا وهو أن الوعي به الظاهر وبع
الباطن لكون أن الإنسان كذالك به الظاهر والباطن .
ولغاية الآن فقد استعان الفلاسفة العضماء بأربعة مواضع هامة نستطيع توضيفها
كإشارة لمفهوم الوعي ، أولا المعرفة بشكل عام ثم الاستيطان ثم القصيدة وأخيرا
التجارب الظهراتية ، كما صنف كذالك لأربعة أصناف رئيسية أولا الوعي العفوي
التلقائي والذي يتدخل في مزاولة بعض الأنشطة التي لا تتطلب منا مجهودا أو تركيزا
ذهنيا ، بحيث يخول لنا حرية استغلال قدراتنا الذهنية في أمور أخرى ، ثانيا الوعي
التأملي وهو الوعي الذي يتطلب منا تركيز ذهني عالي جدا وكانك تحاول حل المسائل
الرياضية أو الفيزيائية ، وثالثا الوعي الحدسي والذي يكون تلقائي وفجاىي sans extension ، وأخيرا الوعي المعياري والأخلاقي والذي
يجعلنا نفرض وجودنا كأشخاص قادرين على إصدار أحكام عقلانية تتماشى مع تجاربنا
الحياتية وفهمنا للأمور الصائبة .
عموما وكخلاصة لهذا الموضوع الشيق فإن الوعي هو الحظور العقلي والجسدي
والروحي الاني .
تعليقات
إرسال تعليق
إذا كان ليكم أي استفسارأو معلومة يرجى تضمينها