القائمة الرئيسية

الصفحات

عيشة قنديشة|قصة وتحولات من امرأة مجاهدة إلى جنية

 

عيشة قنديشة|قصة وتحولات من امرأة مجاهدة إلى جنية

عيشة قنديشة
عيشة قنديشة


مرحبا|من وقائع وأحداث واكبت القرن الخامس عشر ، إلى نسيج متتالي من قصص الوهم والخرافات ، ومن قصة كفاح امرأة مجاهدة ، إلى قصة جنية تسكن القبور والخوالي ، ومن حسناء حاربت الإستعمار البرتغالي ، إلى امرأة عجوز شمطاء تتغذى على لحوم البشر ، قصة تطورت لتشمل المعتقد والفولكلور المغربي ، لتصير بذالك أقصوصة معتمدة لدى الأوساط الشعبية ، وتصير حقيقة متلازمة يتغنى به الكبير والصغير ، هذه المرأة التي نسجت حولها أساطير ، وألفت على خلفيتها قصص وأفلام ، ما هي إلا بلورة في سرد الأحداث ، وتطورات ميطافيزيقة تلت كل فهم وكل متلقي ، لتعاد صياغتها مجددا مع بعض الإضافات ، وتعاد بلورة القصة بنسيج جديد ، ما أهلها لاتخاذ مسارات متفرعة ، وضم أبعاد بلا حدود .

عيشة قنديشة أو عائشة الأميرة ، شخصية مثيرة للجدل بكل ما تحمل الكلمة من معنى ، إذ تتعدد الروايات حوال سيرتها الذاتية في الثرات الشعبي المغربي ، لتعرف بذالك تحولات كثيرة كلها من نسج الخيال ، فتارة جسدت المرأة المقاومة التي صمدت بكل فخر ضض الإحتلال البرتغالي للمغرب ، وتارة أخرى جسدت الجنية التي اصطلح عليها مسميات كثيرة ، كعيشة البحرية وعيشة السودانية وعيشة الكناوية ومولات المرجة ، وتارة أخرى أخذت وصف آخر لامرأة المقابر أو بغلة المقابر ، والتي تغوي ضحاياها بجمالها الفاتن ، لتقودهم مباشرة نحو مصيرهم المحتوم ، حيث أن لكل وصف من هذه الشخصيات قصة يخفيها في دوالبه ، وأسرار عديدة تكاد تخلوا من ملامح المنطق ، ما أعطاها تلك الصفة من صفاة الوصف الميطافيزيقي ، لتنتقل بذالك الأسطورة من الفولكلور المغربي ، لتشمل أسقاع الأرض ، ففي اليابان يتجلى وصف عيشة قنديشة ، بأسطورة الفتاة ذات الفم الممزق ، والتي لطالما شهدنا لها مقاطع على اليوتيوب ، وحتى في بعض أفلام الخيال ، بينما في مصر عرفت هذه القصة بأسطورة النداهة ، وعرفت في الخليج العربي بأم الدويس ، وعرفت كذالك بمسميات أخرى في ثقافات عديدة ، حيث أن لكل شخصية من هذه الشخصيات قواسم مشتركة ، أهمها عنصر الإغواء ، وصفاة الجمال الأنثوي الخداع ، والرغبة في القتل والإنتقام ، بينما يتجلى عنصر المفاجئة والدعر في عامل الزمان والمكان ، والذي غالبا ما يكون في أوقات متؤخرة من الليل ، وفي أماكن مهجورة وخالية .

وبالرجوع إلى النعت المغربي ، ونسخة عيشة قنديشة الأصلية ، لا بد أن نعطي تعريفا لعائشة المجاهدة ، إذ يحكى أنها القصة الأصلية والحقيقية لهذه الشخصية ، بينما الباقي مجرد تبليل للطين ، ففي القرن الخامس عشر ميلادي ، كان يخضع المغرب لوطأة الإحتلال البرتغالي ، إذ كانت تعيش عائشة في الأندلس رفقة أهلها الموريسكية النبيلة ، وبينما في خضم الإحتلال ، قتل زوجها وشردت عائلتها ، لتجد نفسها مجندة في صفوف المقاومة المغربية ، إذ كان لها نهج انتقامي فريد من نوعه ، فتارة كانت تقتل عن طريق القنص بالبندقية ، وتارة أخرى كان لعنصر الإغواء والإستدراج النائي ، دور مهم في القصاص والإنتقام لزوجها ، حيث كانت تستدرج عناصر الكتائب الصليبية إلى مناطق خالية ، لتقتلهم بطرق شنيعة ومقززة جدا ، ونظرا لعجز الإحتلال البرتغالي من النيل والإنتقام منها ، بدأ يروج الإعتقاد السائد بكونها جنية وليست بشرية ، لأن النيل منها صار من سابع المستحيلات ، وصار إدراكها والقبض عليها أمرا مستبعدا ، لتصنع بذالك لنفسها مجدا ضمن أقوياء المقاومين المغاربة ، وتدون اسمها في التاريخ بأحرف من ذهب ، حتى صار يطلق عليها لقب عائشة الكونتيسا ، وهي تعبير لغوي عن إسم عائشة الأميرة .

ويشير الجزء التاسع من كتاب الأعلام للقاضي عباس ابن ابراهيم السملالي ، أن عائشة لم تكن مجاهدة ، وإنما كانت ولية من أولياء الله الصالحين ، وواحدة من المباركين الملمين بأصول التصوف والزجل ، ولربما لم تكن هي عائشة المجاهدة ، لأنها واكبت أواخر القرن التاسع عشر وليس القرن الخامس عشر ، وصاحبت أنذاك فترة سيدي محمد بن عبد الرحمان ، الذي كان يزورها للتبرك بدعواتها ونيل البركة ، وبعد وفاتها مباشرة دفنت في مقبرة باب غمات بمدينة مراكش .

وأما عن عيشة قنديشة التي جسدت وصف بغلة المقابر ، فهي أسطورة أخرى تكاد لا تخلوا من عنصر الإثارة ، وهي قصة منفصلة تماما عن جوهر موضوعنا هذا ، لاكن بطريقة أو بأخرى تم دمج القصتين مع بعضهما البعض ، لتصير بذالك قصة واحدة تضم شخصيات متعددة ، كونهم يحملون في طياتهم نفس الصفاة المشتركة ، ونفس الوصف العقائدي ، ومع تبلور الأحداث الخرافية وتراكم القيل والقال ، تبنتها عدة مراجع ومدونات في محركات البحث على نحو خاطئ ، وعلى رأسهم موسوعة ويكيبيديا وموسوعة وزي وزي .

وعلى ذكر بغلة المقابر أو دابة الروضة ، فهي امرأة حسناء تحمل وصف الجمال الملكوتي ، أو وصف الجمال الأنثوي المبالغ فيه إن صح التعبير ، كما تحمل عنصر التشويق من خلال شاكلة أطرافها السفلية ، والمشكلة من قوائم الدواب كالحمير أو البغال ، أي بعبارة أدق كتلك التي ظهرت في فيلم التعويدة لعادل إمام ، لاكن الشخصية في ظاهرها تحمل أوصاف امرأة بشرية وليس جنية ، هذه المرأة التي حل بها القدر واللعنة بعدما زنت مباشرة من وفاة زوجها ، ولم تحترم العدة المشرعة دينيا قبل فوات الأربعين ، أو بالأحرى قبل خلع الثوب الأبيض ، لتمسخ بفعلتها هذه على هيئة نصف امرأة ونصف بغلة ، وتصير نسخة مكتملة لكائن متحول ومصمم للقتل ليلا ، ولكل من يراها أو يفتن بجمالها وحسنها ، فليضع في حسبانه أنه لا مفر منها ولا خلاص ، لأنه سيصبح مسير ذاتيا وفاقدا للإدراك والوعي ، وكأنه خضع تقريبا لجلسة تنويم مغناطيسي ، وبذالك تصبح دقائقه معدودة وحياته شبه منتهية تماما ، كما يحكى أيضا أن بغلة المقابر هذه ، لها نقطة ضعف وحيدة لكل من يود النجاة من بطشها ، وهو إدرام النار والتلويح به في الهواء .

وأما عن أسطورة عيشة قنديشة الجنية ، فهي عبارة عن امرأة عجوز هرمة تقتات على لحوم البشر ، وتعيش فقط في الأماكن المهجورة والنائية ، تلك التي تستغلها كأوكار للإصطياد والقتل ، كما يحكى أن لها أوصاف خيالية أخرى لا تخلوا كذالك من عنصر المفاجئة والتشويق ، إذ يقال أن لها ثديين طويلين تجعلهما خلف ظهرها أثناء المسير ، وترتدي بنطالا أبيض فضفاض يسمى بالقندريسة ، كما تعرف بجسدها المجرد من فوق ، والذي لا يستره سوى شعرها الطويل والمجعد .

وبالحديث عن بعض القصص الغامضة ، فتتداول الأوساط الشعبية قصة عالم الإجتماع الراحل بول باسكون ، والذي دون كتاب تحت مسمى ، أساطير ومعتقدات في المغرب ، إذ يحكى أن أستاذا للفلسفة يعمل بإحدى الجامعات المغربية ، أقدم على تحظير بحث مطول حول شخصية عيشة قنديشة ، فما لبث أن تعمق كثيرا في أطوار هذه الشخصية ، حتى وجد نفسه بغثة مدطرا لحرق كل تدويناته ، وإيقاف البحث بشكل مفاجئ ، ثم إقدامه على مغادرة المغرب بشكل رسمي ، وذالك نظرا لتعرضه لمواقف غامضة جدا ومحيرة ، أثرت على نفسيته ما أجبره على ترك البحث والمغادرة الطوعية .

وغرارا على ما تقدم ، فإن هذه القصة ليست الوحيدة من نوعها ، ولاكن توجد العشرات ولربما المئات من القصص المشابهة والمواقف المحيرة ، فمنها ما تتناقله الألسنة وأضيفت عليها التوابل والبهرات ، ومنها الحصري الذي يحكى مباشرة من المصادر التي عاشت مواقف مماثلة .

عيشة قنديشة بعد كل قصص الدراما والإثارة التي عشناها ، لا زالت أسطورتها تتناقل وتلوح نحو آفاق بعيدة ، لتواكب  مسارات تاريخية قديمة وحديثة من ثراتنا الشعبي ، حتى صارت محط اهتمام كبير من صناع الأفلام ، ومحط أنظار صناع الوثائقيات والكتاب ، وحتى الرسامين وعلماء الأنتروبولوجيا والميثيولوجيا ، لتجوب العالم طولا وعرضا وتبلغ مشارق الأرض ومغاربها ، فقد دون الأنتروبولوجي وستر مارك ، بعضا من أسرار هذه الشخصية الغامضة ، لكونه كان متعمقا جدا في دراسة أبعادها التاريخية والعقائدية ، ليخرج باستنتاجات مهمة جدا في النهاية ، تفيد بأن عيشة قنديشة مجرد معتقد تعبدي لا يقل أهمية عن أسطورة عشتار أو آلهة الحب في ثقافة شعوب البحر المتوسط وبلاد الرافدين ، والتي كان يقام على شرفها طقوس للدعارة المقدسة ، لذا فإن عيشة قنديشة تعتبر كأي خرافة لا تمث للواقع بصلة ، كما تم إصدار كتاب على شرفها تحت عنوان عيشة القديسة في دار النشر بسوريا ، والتي حملت في طياتها بعضا من ملامح خرافة عيشة قنديشة الأصلية ، وأما في سنة 2007 تم عرض فيلم رسوم متحركة ثلاثي الأبعاد تحت عنوان beowulf ، يجسد أسطورة كانت شائعة في شمال أوروبا قديما ، تتناول قصة امرأة جنية غاية في الجمال ، تغري بطل الفيلم beowolf بجمالها وبوعودها الكاذبة ، والرامية لإخضاع عدة ممالك تحت سيطرته ، وبعد نجاحها في مجامعته تنجب منه طفلا يتشكل على هيئة تنين ذهبي اللون ، وهو الذي يحاربه في نهاية الفيلم ، ولا ينال منه إلا بمشقة الأنفس .

وهو فيلم غاية في الروعة أنصحكم بمشاهدته والإستمتاع به .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

author-img
أبو محمد ابن يمين باحث متواضع في مجال التعدين و الآثار و حاصل على شهادة البكالوريا سنة 2006 بمدينة فاس ثانوية سيدي ابراهيم شعبة العلوم التجريبية ، جاب خلال حياته مجموعة من المجالات منها الفني والثقافي والحضاري إلى أن حط الرحال في مجال البحث عن الثراء من خلال ميدان التنقيب عن المعادن والأحجار الكريمة إضافة إلى مجال الأسياخ النحاسية التي بدأ يدرس أسسها بطرق فيزيائية علمية منذ 3 سنوات أي في سنة 2017 تحديدا حيث نال مرتبة متوسطة و متواضعة إلى حد ما فيما يخص الكشف عن الفراغات والدفائن والمياه الجوفية ، وفي الفترة الأخيرة من سنة 2019 بدأ يهتم بمجال الإشارات وفك رموزها انطلاقا من الحظارات القديمة والعادات القبلية التي جاءت مصاحبة لكل حظارة كما يتمنى أن يرقى بمستواه الفكري ومستوى كل قارئ وزائر لهذه المدونة المتواضعة وبفضل الله وفضلكم سنحقق المستحيل إنشاء الله

تعليقات