خرافة العقل الباطن في منظور علم الإستشعار
لقد صور
طبيب الأعصاب والمحلل النفسي النمساوي سيغموند فرويد ومؤيديه رؤيا نمطية للعقل أو
للوحدة بحسب التصور الحديث لمفهوم العقل في الفكر والفلسفة والدين ، فكانت الصورة أو
التصور الماورائي لفرويد أشبه بجبل جليدي عائم ذو بنية هندسية هرمية يشمل ثلاث طبقات
متفاوتة من حيث الكم والسعة ، جزئه العلوي الظاهر هو الوعي بكل ما يحمل من تصورات
وأفكار واعية وعقلانية ومرتبة في منظور العيان ، هذا الجزئ العلوي هو الذي يصطلح
عليه في الفلسفة باسم الأنا ، بينما باطن الأيسبيغج أو الجبل الجليدي تنجلي تحته طبقتان
متفاوتتان من حيث الحجم وكم الأفكار التي تنتقل عبرهما النوايا المكبوتة والغرائز
وردود الفعل اللاواعية مباشرة للعقل الواعي ، وكأن التصور يطابق منظور المسيحية في
فكرة الله ثالث ثلاثة ، إذ تعد الطبقة التي تقبع تحت سقف الوعي مباشرة بالطبقة
الوسطى التي تتوسط اللاوعي والوعي ، وهي طبقة رفيعة تسمى بما قبل الوعي أو بالعقل
الباطن أو نستطيع تسميتها بالعقل المعجزة ، ولو أن عموم الناس يخلطون بين العقل
الباطن واللاوعي إلا أن الإثنان لهما صلة وصل وقرابة جزئيا ، طبعا طبقة العقل
الباطن يشمل في ثناياه الغرور وبعض الأفكار الغير مقبولة اجتماعيا والرغبات
الجامحة والمشاعر المؤلمة التي تطردها آلية الكبت ، لتبقى سجينة أو قيد المعالجة إلى
حين الزج فيها من قبل العقل الواعي وتنظيمها ، لاكن قادرة أحيانا على تخطي المعالجة
الواعية وإبداء ردود فعل تلقائية وغير محسوبة ، ومنه صنف على أنه تلقائي وعفوي ،
أضف إلى ذلك عدم مقدرته على التمييز بين الخير والشر وبين السالب والموجب لأن
وظيفته تقتصر على التخزين فقط ، أي بمعنى واضح ذاكرة لاكنه أذكى من العقل الواعي
بكثير وله معجزات كثيرة في التنمية البشرية وفي البرمجة العصبية إلخ ، وأما
اللاوعي فهو بمثابة طبقة كبيرة جدا تأتي تحت العقل الواعي والعقل الباطن ، وتشمل الهو
أو الغرائز والقيادة والأنى الأعلى أو الضمير ، كل هذه الصفات والأفكار والعوامل
النفسية لا يدركها الأفراد من حولك بحجة أنها غير مقبولة اجتماعيا ، لاكن قادرة
أحيانا على أن تتمرد وتسطوا فوق الوعي بنسبة 90 في المئة من سلوك الإنسان الواعي ،
وأما عن 10 في المئة المتبقية فهي تكلفة العقل الواعي خلال حالات اليقضة ، هكذا
كان تعريف فرويد ومؤيديه لوحدة العقل وبإجماع التابعين له بإحسان والمطبلين له إلى
يوم الدين ، أي بمعنى صريح مقدمة لعقل تتضارب فيه الشروحات بين الذكاء والذاكرة وبين
الغباء والمقدرة وبين السلطة والتمرد ، ولعل هذه المقدمة العجيبة نلتمس من خلالها
5 تناقضات إن لم نقل أكثر من ذلك وسنعاود الرجوع للزج فيها لاحقا .
طبعا في
خضم المنافسة بين العلماء والمفكرين والفلاسفة نجد طائفة أخرى تنعت هذا العقل بمكنون
وجودي يسجي بداخله ترسبات القمع النفسي خلال مراحل حياة الإنسان ، إذ أن هذه
الترسبات لا تصل للذاكرة أبدا ، بل وتظل سجينة العقل الباطن لتصير محفزة للسلوك والغرائز
الجنسية المكبوتة ، لتبقى طبيعة العلاقة بين الذاكرة والعقل الباطن تنافرية ولا
صلة لهذا بذاك ، أي بمعنى صريح ليس بذاكرة أبدا عكس فرويد ومطبليه ، لاكن رغما عن كونه ليس ذاكرة إلا أن جملة
العوامل النفسية السلبية تترسب فيه ، وهنا يقع تضارب بين أفكار فرويد ومفكري هذا
العصر ، ولنفترض أن العقل الباطن يتربع على 90 في المئة من نشاط الإنسان الواعي بشكل
تلقائي وعفوي ، إذن كيف كانت نشأة هذا العقل ؟ ومن أيت جاء ليسيطر على جملة حياة
الإنسان ، وهم قالوا لنا توا بأنه نتاج لترسبات القمع النفسي والذكريات وتجارب
الحياة وكل شيء له ماضي ؟ وليست له أية سلطة على العقل الواعي ولا يميز بين الخير
والشر ؟ طبعا هذا سؤال منطقي لأنه من خلال تعريف فرويد اقتنعنا بأنه نتاج مخلفات
العقل الواعي ، وهو عقل مستحدث وليس أزلي ، ونشوئه لم يكن بمحظ الصدفة بل سبقته سلسلات
من الأحداث الواعية ، لاكن مخافة أن يسقط الباطنيون في هذا التناقض الذي وقع فيه
فرويد وداعميه ، جاؤو بتحليل آخر وقالوا لنا بأن العقل الباطن أزلي وليس مستحدث ،
ليس هذا فقط بل له إسناد مرجعي في القرآن الكريم لقوله سبحانه وتعالى [وإذ أخذ ربك
من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن
تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ] أي أن السؤال هذا في خضم الآية
الكريمة جاء من العدم وسبق وجود ذرية ابن آدم قبل أن يكون الخلق ، وهنا كان العقل
الباطن سابقا لأوانه وأزليا ، لاكن في الوقت الراهن لا أحد منا يتذكر هذا الحدث
الغابر ، بالرغم من كون العقل الباطن في الأساس ذاكرة ولا يميز بين الصواب والخطأ
، وإن صح هذا التعبير فالمقصود بالآية الكريمة هو الوعي وليس الذاكرة ، لأن الله
تعالى خاطب الوعي قبل نشوء ذرية ابن آدم ، وكان الحظور كليا وليس جزئيا ، لأن بعد
قوله سبحانه وتعالى بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، أي
أننا عاينا الحدث هذا وشهدنا كذالك على أنفسنا ، ولقطع الشك باليقين سنتسحتظر
الآية 18 من سورة قاف ، والتي يقول فيها جل في علاه [ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب
عتيد] أي أنك أيها العبد مسؤال عن كل تصرفاتك الواعية ، وأن كل عمل أو قول يسبقه
وعي وإدراك ، ولا وجود مطلقا لمصطلح 90 في المئة من تصرفاتك الغير واعية ، أو أن العقل
الباطن له سلطة على أن يتمرد ويسطو فوق الوعي والإدراك ، أو أن أعضائنا البيولوجية
لها اتصال بالعقل الباطن ، كل عضو فينا وكل خلية منا لها وعي خاص بها ولها ذاكرة خاصة
بها ، وكل عضو كما أسلفنا في طرح سابق متصل اتصال مادي ومنفصل انفصال وضيفي ، أي
أن كل تصرفاتنا واعية ومحسوبة وسنلقى الله عليها ذون أعذار ، والجلي بالذكر أن الذاكرة
بعكس مزاعم الباطنيين وداعميهم ليس بالضرورة أن يكون هناك عقل يسجل ويدون الماضي ،
أو عقل قائم على تخزين التجارب والخبرات ، لأن الوعي والذاكرة يشملان كل أشكال
الحياة ، وأن الماضي مهما تناسته الذاكرة يضل محفوظ بكل تفاصيله وجزئياته في أرشيف
الوجود ، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى في سورة النور الآية 24 : يوم تشهد عليهم ألسنتهم
وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، أي أن ألسنتنا وأيدينا وأرجلنا أيضا لها وعي ولها
إدراك ولها ذاكرة ، وأنها قادرة على أن تتذكر كل حدث مر في حياتنا السابقة وستشهد
يوم القيامة بكل صغيرة وكبيرة ، أي أن اتصالنا بهذا العالم تزامني بالماضي وناقل
لكل جزئ من الثانية إلى ذاكرة الوجود ، بحجة انتقالنا من الماضي إلى الحاضر وبحجة
أننا نحن من يصنع الحدث .
تخيل معي
ذالك النجم البعيد الذي مات منذ ملايين السنين وانطفئ في حاضره البعيد ، لا زال
ضوئه يصل إلينا في مستقبلنا هذا وكأنه حي أو لا يزال حي ، مع العلم أنه انتهى
وانقضى ، فكلما سافرنا في الفضاء البعيد وعبرنا ملايين السنوات الضوئية نكون قد اخترقنا
حاجز الزمن وعبرنا إلى ماضينا أو إلى مستقبلنا المرتقب ، فلو نظرنا إلى هذه الأرض
من زاوية ما عبر هذا الكون الفسيح لاستطعنا أن نرى ماضي الأرض وكأننا نقلب في أرشيف
ذاكرة الكون ، ولفهم هذه الجزئية بلغة الخشيبات فإن الضوء الصادر من الشمس لا يصل
إلينا إلا بعد مرور 8 ثواني ، إذ يعد هذا الضوء حاضرا بالنسبة لنا وماضيا بالنسبة
للشمس ، وكل ما نراه سوى ثواني معدودة من ماضي الشمس ، إذن فالذاكرة ما هي إلا صور
ومرائي حقيقية ملازمة للحاضر وحتى للمستقبل ، يكفينا فقط تسخير القليل من الوعي والسفر
في غياب الماضي لإحضار تلك الذكريات والصور .
وأما عن
بعض ما جاء في سنن الباطنيين بأن هذا العقل المعجزة أشبه بربان طائرة آلي ، إذ له
القدرة الكاملة على تولي زمام القيادة التلقائية في غياب الوعي أو في حالة الشروذ
الذهني ، كما له القدرة الكاملة على إبداء تصرفات واعية ومحسوبة بالرغم من كونه
ذاكرة بحسب فرويد وليس ذاكرة بحسب المعاصرون ، وبالرغم من كونه لا يميز بين الصواب
والخطأ ، إلا أن له القدرة على إبداء تصرفات واعية ومحسوبة ، كل هذا يعمل بفضله
لإيصال الطائرة إلى بر الأمان ، لاكن ما نلتمسه ونعيه ميدانيا في مرحلة البحث أننا
لا نكون في حالة شروذ ذهني ، ولا نكون في حالة سهو ، بل ونكون جد واعون ومدركون
ومستشعرون وحاضرون بنسبة وعي 100 في المئة ميدانيا ، ولا تحتاج طائرتنا أنذاك
لربان أو لقيادة تلقائية ، كل ما نعتمده
هو خبراتنا الناجحة وليست الفاشلة بين قوصين ووعي كلي وحظور نفسي محظ .
نأتي
الآن إلى مقدمتنا المتضاربة ، وكما أسلفنا الذكر أن العقل الباطن يشمل في ثناياه
الغرور وبعض الأفكار الغير مقبولة اجتماعيا والرغبات الجامحة والمشاعر المؤلمة
التي تطردها آلية الكبت ، لتبقى سجينة أو قيد المعالجة إلى حين الزج فيها من قبل
العقل الواعي وتنظيمها ، أي بمعنى صريح ذاكرة يخزن فيها كل شيء سلبي وغير مقبول
إجتماعيا ، وكونه لا يميز بين الخير والشر ، فهو عبارة عن شريحة إلكترونية يعمل
على تخزين الأحداث المؤلمة والغرائز والرغبات إلخ بفضل رقابة من ؟ بفضل رقابة
الوعي ، لأنه يستحيل نقل بيانات من الواقع وتضمينها داخل سجلات الذاكرة في غياب
الوعي ، كونه من الضروري وجود طرف ثالث ناقل للمعلومات من هنا إلى هناك أو طرف
يعمل على ترتيب هذه الذكريات ، إذن كيف لهذا العقل أن أي يتحكم في زمام القيادة
التلقائية وهو لا يتمتع بأية سلطة تنفيذية تعلو وتسموا فوق الوعي والإدراك ، وهنا
نكون قد عدنا أدراجنا مرة أخرى صوب الآية 18 من سورة قاف ، وأما إن لم يكن ذاكرة
بحسب المعاصرين فكيف له أن يستحضر أحداث مرت علينا قديما دون أن ننتبه لها أو حتى
أن نشعر بها ، إذن لا بد لآلية الوعي من جوب غوازي الذاكرة وإحظار السجل المرغوب
فيه .
طبعا هناك
من يحاول ترقيع الوضع بإدراج العقل الباطن تحت وصاية الفؤاد ، فالفؤاد بحسب
المفسرين والمفكرين وعلماء الدين والله أعلم مركزه في دماغ الإنسان أو هو الدماغ
نفسه مصداقا لقوله تعالى «والله أخرجكم بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم
السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون » ، ولعل كثيرا من الآيات التي جائت بمسى
السمع والبصر والفؤاد بشكل متسلسل ومترابط ، لما لهذه المنظومة من صلة قرابة فيما
بينها ، بينما العقل فهو جوهري بالمعنى الحرفي وبعيد كل البعد عن الدماغ ووضائف
الدماغ ، أصدقائي المحترمين إلى كل من يبحث في هذه الجزئية تحديدا له أن يركز وأن
يميل فهمه لجملة كبيرة جدا من الإختلالات في فهم العقل الباطن ، فكل طبيب أعصاب أو
محلل نفسي حول العالم ستلاحظون من خلال شروحاتهم بخصوص هذه الخرافة الكثير من
التضاربات والتناقضات ، ولكم أن تبحثوا أيضا بين المقالات على محركات البحث
وستكتشفون أوجه الإختلاف بين كل تفسير وآخر ، ناهيك عن المعجزات التي يتمتع بها
هذا العقل الخرافي والتي جعلت من كل هؤلاء المطبلين يعجزون في تحقيق المطالب
المادية ، إلا عن طريق ترويج وتسويق الخرافة لغيرهم عبر بعض الكورسات والدروس التي
لا طائل منها ، وأضن بأن هذا الموضوع ناقشناه سابقا ولا داعي لتكراره .
أحبابي
الكرام لم ننتهي بعد من هذا الموضوع الشيق وسيكون لنا لقاء آخر عن هذه الخرافة إن
شاء الله تعالى تقبلوا تحياتي وإلى لقاء آخر
تعليقات
إرسال تعليق
إذا كان ليكم أي استفسارأو معلومة يرجى تضمينها