علم الإستشعار وطبيعة العلاقة بين المادة والشعور
طبعا من
خلال عنوان الحلقة يتضح أن المسعى هو إقران المادة بالإستشعار ، ولفهم أصل العلاقة
بين المادة والشعور ، كان ولا بد من إقامة دراسة معمقة حول طبيعة البشر بجل
سلوكياته ، لأن الإستشعار كلمة مشتقة من شعور وهي قرينة الجنس البشري ، إذن لفهم
طبيعة البشر وسلوكياتهم كان ولا بد من طرح عدة علامات استفهام موضوعية كمنطلق لفهم
كينونته ، نشأته ، تركيبته ، منظومته البيولوجية ، علاقة العقل بالأفكار ، تأثير
الطاقة على الجسد إلخ ، كلها تساؤلات ترمي لعمق فلسفي محظ يقتضي دراسة معمقة حول أغوار
الذات والنفس البشرية ، ومدى صلة القرابة بين الجسد والعالم المادي ، سواء المرئي
منه أو الجوانب المظلمة ، لأن المادة ليست بالضرورة أن تكون ملموسة أو في مرمى
العين ، هذه الأسئلة التي تتمحور حول منشأ الأفكار وعلاقة الأفكار بالمادة ، وما
هو الشعور ومدى صلتة بالإدراك وأين يتشكل الوعي ، وهل هو متصل أو منفصل عن المادة ؟
كلها أسئلة كرس الفلاسفة جموحهم منذ عصور خلت لفك هذه الرموز والألغاز المبهمة ،
فكانت المحصلة أن انقسموا إلى أربعة مذاهب سامية أو أربع مدارس مختلفة ، كل مذهب
له جوانب منطقية محظة وأخرى ميطافيزيقية أبعد من تصور الإنسان العادي ، ولفهم هذه المذاهب
ودراستها بالحجج والبراهين ، كان ولا بد لكل فرد من ان يأخذ توجها يملأ قناعاته كمنطلق
، ثم يبدأ في استيراد الأدلة المتاحة أنذاك لتعزيز صحة المذهب ، وهذا هو المنطق
وعين الصواب ، ولتقريبكم أكثرمن هذه المذاهب سنعطيكم تعريفا بسيطا لكل مذهب على
حدى كي ننتقل بكم للخطوة الموالية .
أولا_مذهب
المثالية وينص على أن العقل هو أساس المعرفة ، وأنه هو الذي يبني الواقع وليس
العكس ، وأن الإنسان مزيج من عقل ومادة ، إلا أن المثالية تنسب أصل كل الموجودات إلى
العقل .
ثانيا_مذهب
المادية والذي ينسب أصل كل شيء إلى المادة بما في ذالك الأفكار والنوايا والأحاسيس
، وأن المادة أولية بينما الوعي ثانوي باعتباره جزئ لا يتجزئ من المادة .
ثالثا_مذهب
المثنوية أو الثنوية وهو مذهب أو ديانة تؤمن بآلهة التضاض ، كالنور والظلمة ،
الخير والشر ، الماء والنار وهكذا ، كما تؤمن المثنوية بالوجود المستقل للمادة عن
الجسد .
رابعا_مذهب
الأحادية المحايدة والذي ينسب أصل كل الموجودات إلى جسد وعقل باعتبارهما جوهر واحد
.
إلا أن
التوجه العلمي والأكاديمي السائد كان ولا يزال يؤمن بمذهب المادية ، باعتبار المادة
هي اللبنة الأساسية في تركيب كل شيء بما في ذلك الأفكار والنوايا والأحاسيس ، وهنا
سنقف وقفة تأمل بسيطة لفهم طبيعة العلاقة بين الوعي و المادة أو بين الشعور والمادة
؟ وهل الشعور بالفعل مادة أم لا ؟ وللإجابة عن هذا السؤال بصيغة العلم وليس بصيغة
الإيحاء ، سنحاول الغوص قليلا في تاريخ أولى الإكتشفات العلمية عن طبيعة المادة ،
ثم سنحاول بعدها فهم أصل الشعور وكيف يتولد وهل هناك علاقة بين الشعور والمادة ؟
يعتبر
الفيلسوف اليوناني ديميقريطس من القلة الأوائل الذين وضعوا أولى نماذج للذرة في
تاريخ البشرية ، وكان اول من وضع هذا المسمى تحت اسم أطاموس والتي تعني الغير قابل
للتجزئة ، أو الغير قابل للتقسيم ، إذ كان يعتقد بأن الذرة هي أصغر مركب موجود على
الإطلاق ، وهي الجزئ الخفي من المادة ككل ، وكل مادة تتركب من نوع واحد من الذرات
، كما لهذه الأخيرة القدرة على التحرك في الفراغ بشكل ثابت .
سنة 1805
ظهرت نظرية دالتون الذرية والتي تنص على أن نسب كتل العناصر في أي مركب عبارة عن
أعداد صغيرة صحيحة ، وأن أي عنصر مادي يتألف من نوع واحد من الذرات التي لا يمكن التلاعب
بها أو تفكيكها بأي طريقة كيميائية كانت ، في حين وضع بعض القوانين الفيزيائية
المهمة كقانون الحفاظ على الكتلة وقانون النسب الثابتة إلغ ، لاكن في سنة 1811 قام
العالم أميديو أفوغادرو ببعض التعديلات الطفيفة على نظرية دالتون ، لتنتقل الذرة بعدها
إلى طور جديد من الإكتشاف والتعديل في النموذج سنة 1897 ، حيث اكتشف العالم
الفيزيائي جون طومسون وجود الإلكترون ذو الشحنة السالبة كإحدى مكونات الذرة ، إذ
استطاع إلغاء المفهوم الكلاسيكي حول نموذج الذرة للعالم دالتون ، والذي يقتضي عدم
قابلية الذرة للتجزئة ، لاكن نموذج طومسون للذرة أو ما يسمى بنموذج بودينج ينص على
أن الذرة لها شحنة محايدة ، هذا الخطأ الفيزيائي ألهم إرنست رذرفورد وهو تلميذ جون
طومسون من القيام بعدة تجارب أسفرت في النهاية عن اكتشاف جديد يقتضي وجود بروتونات
موجبة في نواة الذرة وإلكترونات سالبة تتوزع حول مدارات خارجية ، بينما في سنة
1915 وضع الفيزيائي الدنماركي نيلز بور نموذجا جديدا للذرة ، إذ تزامن عصره مع ظهور
اولى شرارت فيزياء الكم ، حيث اقترح أنذاك العالم ماكس بلانك وألبيرت إنشتاين فرضية
تقتضي أن طاقة الضوء تنبعث ثم يتم امتصاصها على شاكلة نطاقات إشعاعية منفصلة سميت
باسم الكمات ، وكان هذا التعريف محط اهتمام بور لتعديل نموذجه الجديد للذرة ،
فكانت استنتاجاته تقتضي وجود إلكترونات تحوم حول نواة الذرة في مستويات من الطاقة سماها
فيما بعد بالمستويات المستقرة ، وكان الإستنتاج الثاني ينص على أن مقدار الطاقة
الخاصة بكل مدار يختلف بحسب بعده عن النواة ، إذ يتصاعد هذا المقدار من الطاقة بشكل
تزايدي كلما ابتعدنا عن النواة ، الإستنتاج الثالث وينص على أن الذرة تمتص وترسل
إشعاعات كهرومغناطيسية ، وهي التي تتحكم في تنقل الإلكترونات بين مدارات الطاقة ،
وفي أوائل القرن العشرين بلغ فيزياء الكم ذروته بعد اكتشاف الإندماج النووي سنة
1932 على يد العالم مارك أوليفانت ، واكتشاف الإنشاطر النووي سنة 1939 على يد
العالم ليز مايتنر ، لتبدأ ثورة جديدة في فيزياء الكم عن طريق تطوير مسرعات
الجسيمات والتي كان لها الفضل الكبير في اكتشاف جسيمات أولية في مكونات الذرة ، بعدما
كان يعتقد العلماء أن البروتونات والنيوترونات جسيمات أولية ، حيث أن في فترة الخمسينيات
والسيتينيات من القرن الماضي بدأت الثورة الحقيقية لإنشاء أول نموذج معياري في
فيزياء الجسيمات ، والذي يتحكم في ثلاث قوى أساسية في الطبيعة ، القوة النووية
الضعيفة والقوة النووية القوية والقوة الكهرومغناطيسية ، ولتقسيم هذه القوى الثلاثة
على هذا النموذج ، وجب التعريف بطبيعة العلاقة بين عائلة الفيرميونات في جدول
النموذج المعياري والمؤلفة من 12 عشر جسيم ، ثم كيف تأثر هذه القوى الثلاثة والمؤلفة
من 5 جسيمات ما دون الذرية من عائلة البوزونات .
أولا عائلة
الفيرميونات تنقسم إلى نوعان من الجسيمات عائلة الكواركات وعائلة الليبتونات ،
عائلة الكواركات وهي الجسيمات الأولية التي تتكون منها مكونات الذرة الداخلية كالبروتونات
والنيوترونات وأما عن الليبتونات وهي التي تتكون منها الإليكترونات والنيوتيرنوس .
ثانيا
عائلة البوزونات وهي الجسيمات المسؤولة عن نقل هذه القوى الأربعة الأساسية في
الطبيعة ، فمثلا جسيمات الغولونات وهي الجسيمات الأولية المسؤولة عن القوة النووية
القوية التي تربط الكواركات ببعضها البعض في نواة البروتونات والنيوترونات ، وأما
الفوتونات وهي الجسيمات التي تنتقل من خلالها الموجات الكهرومغناطيسية في الطبيعة والتي
يتكون منها الضوء ، وهي المسؤولة أيضا عن تماسك الإلكترونات بنواة الذرة ، وأما عن
بوزونات دابليو و زيد فهي المسؤولة عن نقل القوة النووية الضعيفة ، وأما عن آخر ما
تم اكتشافه رسميا سنة 2012 في مختبر سيرين لتكملة هذا النموذج المعياري وهو بوزون
هيغز أو جسيم الرب والذي تنبئ بوجوده العالم البريطاني بيتر هيغز سنة 1984 .
الآن ومن
خلال هذه النبذة التعريفية المختصرة عن آخر التطورات التي عرفها فيزياء الكم ،
نعود بكم إلى عالم الإستشعار وعلاقة الشعور بالمادة ، وللإجابة على هذا السؤال سنحاول
فهم بعض التراكيب الهامة بحسب ترتيبها في جسم الإنسان ، كي نتعرف على نوع المادة
الأولية التي يتركب منها جسم الإنسان ، وكي نتمكن من إقامة الحجة على طبيعة
العلاقة بين المادة والشعور .
طبعا في
ظل هذه النبذة المختصرة عن تاريخ تطور الذرة من جسيم أولي إلى جسيمات ما دون
الذرية ، سنكتفي فقط بالذرة كجزئ أو كمركب أساسي من المادة ككل ، إذن هذه الذرات في
مراحل تطورها قد تتحد بذرات أخرى عن طريق بعض الروابط الكيميائية لتصير عبارة عن
جزيئ ، فمثلا جزيئات الماء تتركب من ذرة واحدة من الأوكسيجين وذرتان من الهيدروجين
، وخلال عملية البلمرة تنتقل الجزيئات الصغيرة من منفردة إلى مركبات أكبر تسمى
بالجزيئات الكبيرة ، وهي المعروفة في جسم الإنسان باسم الليبيدات والبروتينات
والأحماض النووية والكربوهيدرات ، إذن فجسم الإنسان يتكون من جزيئات صغيرة كالماء وأخرى
كبيرة كالليبيدات وغيرها ، هذه الجزيئات الكبيرة والتي يجمعها رابط مشترك من حيث
الوضيفة قد تلتحم مع بعضها البعض لتشكل تراكيب أكبر تسمى بالعضيات ، وهي الوحدة الفرعية
في الخلية والمسؤولة عن إنتاج الطاقة وتخزين المعلومات الوراثية ، بحيث أن مجموع هذه
العضيات التي لها نفس الوظيفة أو وظيفة مشتركة تكون لنا خلية ، ومن المعلوم أن جسم
الإنسان ما هو إلا مركب من مجموعة خلايا لا أقل ولا أكثر ، أي ما يعني أن الإنسان
ما هو إلا تركيب معقد من الذرات والإلكترونات والجزيئات والخلايا وخلافها ، أي ما
يعني أن جسم
الإنسان لا يقل تعريفا عن أي مادة في الطبيعة ، ولا يتخطى أبعاد النموذج المعياري
لفيزياء الجسيمات ، فهو عبارة عن مادة مكونة من ذرات وجزيئات وجسيمات ما دون
الذرية ، إذن عندما نتكلم عن الإستشعار أو عن الشعور بصفة عامة ، فهل من الممكن أن
تكون للمادة صلة قرابة بالشعور أم أن هذا الشعور له أسباب ومولدات أخرى بعيدة كل
البعد عن المادة ، هنا سنحاول إلقاء نبدة طفيفية عن طبيعة الجهاز العصبي للإنسان ،
والمسؤول عن نقل المعلومات من الدماغ إلى باقي الأعضاء .
طبعا الجهاز العصبي للإنسان هو عبارة سيل من الخلايا العصبية المترابطة فيما بينها والتي تعمل على تمرير السيالات العصبية من الدماغ إلى باقي الأعضاء لإحداث ردود فعل ما ، هذه السيالات هي التي تتلاعب بالعامل الفيزولوجي للإنسان ، كما يعمل أيضا هذا الجهاز على نقل إشارات من المحيط الخارجي إلى الدماغ مباشرة ، وذالك عن طريق استقبال بعض البيانات او المعلومات الخارجية بواسطة الحواس الكلاسيكية ، هذه الإشارات في الأساس ما هي إلا إشارات كهربائية كيميائية عبارة عن جزيئات من الصوديوم والبوتاسيوم يعملان على التلاعب بفرق الجهد على مستوى الخلايا العصبية لتمرير الإشارة ، إذ تنتقل هذه الإشارة بسرعة 120 متر في الثانية مخلفة ورائها ردود فعل تتناسب مع حجم ونوع الإشارة ، ما يعني أن الإشارة ما هي إلا مادة مكونة من جزيئات وذرات وإلكترونات وغيرها ، والشعور نفسه ما هو إلا إفرازات هرمونية كثيرة ومعقدة كالأدرينالين والتيستوستيرون اللذان يؤثران على العامل النفسي والفيزيولوجي للإنسان ، ما يعني أن المادة جزئ لا يتجزئ من الشعور ، وكل نمط هرموني له إشارة معينة وله تأثير معين يبدي نمط من الممارسات والسلوكيات المعينة ، إذن بما أن المادة هي الشعور فالشعور نفسه هو المادة ، وبما أن الجهاز العصبي قادر على تمرير سيالات عصبية من الدماغ إلى باقي الأعضاء ، فإنه قادر أيضا على تمرير سيالات عصبية من الأعضاء إلى الدماغ ، لذا نجد أحيانا بعض ممارسي الإستشعار يستعملون فقط أيديهم لالتقاط الإشارة ، ثم ترجمة الإشارة إلى صور وألوان وأصوات ومقاطع ، وهذه هي حقيقة عالم الإستشعار ، فالقوى الإشعاعية لكل نوع من المادة له نمط شعوري معين ، وإذا كان الباحث قد سبق له وأن تعامل مع هذا النمط الإشعاعي مرارا وتكرارا يستطيع أن يتعرف عليه في أي وقت وأي مكان ، وهذا البند يدخل ضمن الخبر الكيميائي للمادة والذي سنناقشه يوما ما .
تعليقات
إرسال تعليق
إذا كان ليكم أي استفسارأو معلومة يرجى تضمينها